معان بين الماضي البعيد والماضي القريب ( الحلقة السابعة )
دور معان في نشوء إمارة شرقي الاردن
على أثر الاحتلال الفرنسي لسورية سنة 1339هـ / 1920م ، طلب أحرار بلاد الشام من الشريف حسين أن يوفد أحد أنجاله ليتزعم الحركة الوطنية المناوئة للفرنسيين (215), وقد اختار الشريف ابنه الامير عبدالله لهذه المهمة ، فتوجه الامير من مكة المكرمة في 16 محرم 1339 هـ /27 ايلول 1920 ، وبرفقته قوة قوامها خمسمائة رجل ، ووصل الى مدينة معان التي كانت تتبع للمملكة الحجازية بتاريخ 11 ربيع الأول 1339 هـ / 21 تشرين الثاني 1920 م. وقد وصل معه مجموعة من أشراف مكة وضباط من رجالات الثورة ومن مشايخ قبائل الحجاز ، واستقبله أهل معان وباديتها استقبالاً حافلاً، كما يذكر الامير في مذكرته .
واتخذ الامير أحد أبنية سكة الحديد في معان مقراًًُ له ، وأطلق على هذا المبنى اسم (مقر الدفاع الوطني) . وصدرت أول جريدة في شرق الاردن من معان من هذا المقر واسمها (الحق يعلو) . وكانت تكتب بخط اليد ويشرف على تحريرها محمد الأنسي وعبداللطيف شاكر، وهي ( جريدة عربية ثوريه تصدر مرة في الاسبوع). وقد صدر منها خمسة اعداد : أربعة أعداد في معان وعدد في عمان. وتضمنت الجريدة مقالات متنوعة تتعلق بحركة الأمير والأوضاع السياسية في بلاد الشام .
وما أن اقام الامير في معان حتى توافد عليه أحرار البلاد من الضباط وزعماء القبائل. وكانت الحالة في شرق الاردن سيئة للغاية، كما يظهر من تقارير حكومة الانتداب البريطاني، فحالة الأمن سيئة والتسوية التي أقرتها الحكومة البريطانية بإنشاء ثلاث حكومات محلية زادت من حالة التشرذم ، مما جعل السكان يستبشرون خيراً بقدوم الأمير وأنه سينقذ البلاد والعباد من سوء ما آلت اليه الامور.
ولم تكن كل من بريطانيا وفرنسا راضيتين عن قدوم الأمير لما له من أثر على تقليص نفوذ الأولى في شرق الأردن ومناوئة وجود الثانية في سوريه ، كما أن وجود الأمير يعرض العلاقات البريطانية الفرنسية الحساسة الى الخطر بين الدولتين إلا أنهما لم يجرؤا على منعه من الإقامة في معان واتخاذها مقراً لإدارته التي استقطبت أبناء المنطقة وما جاورها من بلاد الشام ، ولأن معان كانت تابعة لمملكة الحجاز أصلاً ، ولا يتازعه أحد في الإقامة في أجزاء مملكته .
إلا ان بريطانيا أوعزت الى ضباطها وسياسييها في شرق الاردن للحيلولة دون تقدم الأمير شمالاً لتحاشي غضب فرنسا من أن نشاط الامير موجهاً ضدها.
وبالرغم من هذا الموقف المناوئ لوجود الامير لم تنقطع صلة الامير بأهالي المنطقة والتشاور معهم، حيث أعلنوا رغبتهم في أن يتولى الأمير حكم المنطقة لتكون قاعدة لتحرير سوريه ومسندة ثورتها. وقد مكن ضعف الادارة البريطانية والرغبة العارمة لدى السكان ، الامير من مواصلة ما عزم عليه من إنجاز المهمة الموكلة إليه وتلبية رغبة الأهالي في إدارة شؤون شرق الأردن، وكانت معان في تلك الفترة المدينة الوحيدة في شرق الاردن المؤهلة لاحتضان الأمير والمركز الحيوي لنشاطه السياسي.
وبالرغم من تأليب بريطانيا الحكام المحليين في شرق الاردن للوقوف في وجه الامير ، إلا ان الامير وقف موقفاً حاسماً من هذه الامور ، ودعا رجالات البلاد للقيام بواجبهم الوطني تجاه قضايا الأمة ودعم مسيرة التحرر والتخلي عن الأطماع الشخصية.
وقد دلت رسائل الأمير التي أرسلها الى الضباط والسياسيين من معان على مبلغ حماسته في الدفاع عن سورية وبقية المناطق ، كما أعلن من معان تنصيب نفسه نائباً لأخيه الملك فيصل في الدفاع عن سورية الشرعي ، وتشاور مع كبار الضباط الذين وفدوا عليه لتشكيل حكومة سورية في المنفى، تأخذ على عاتقها حشد الجهود لتحرير سورية .
ومن هنا يبرز دور معان في تلك الفترة بصفتها النواة والعاصمة الاولى لإمارة شرقي الأردن وما زال قصر الملك عبدالله في معان شاهداً ناطقاً لأجل الأحداث وأخطرها والتي كانت البديات الأولى لتشكيل الكيان السياسي الاردني بقيادة هاشمية.
وفي بداية شهر جمادى الاولى 1339 هـ / بداية شهر شباط 1921م ، عقد الوطنيون في عمان اجتماعاً قرروا فيه إرسال وفد منهم لتوجيه الدعوة الى الامير عبدالله بالقدوم الى عمان لاتخاذها مقراً لتحركاته . وفي منتصف شهر جمادى الثانية 1339 هـ / أواخر شهر شباط 1921م، ذهب عدد من الزعماء لتوجيه الدعوة إليه وكان من بينهم سعيد خير رئيس بلدية عمان ، وسعيد المفتي، وكامل القصاب وأمين التميمي، وعوني عبد الهادي ، وعوني القضماني، وسليمان النابلسي. وقد انضم الى الوفد مظهر أرسلان متصرف السلط الذي تراجع عن موقفه السابق تجاه الامير عبدالله . ومن شرفة المنزل الذي كان الامير يقيم فيه خلال وجوده في معان ، قال في مودعيه كلمة جاء فيها : (( كلكم يعلم ما حل بالبلاد وإننا نرى دماءنا وأموالنا رخيصة في سبيل الوطن وتخليصه . وقد قطعتهم الفيافي والقفار والتحقتم بنا للذود عن البلاد والاعراض . وقد كان سعيكم سعياً مشكوراً وعملاً مبروراً .