لا مجال للفشل في مهمة بناء معان الجديدة؟
رنا الصباغ
في معان رافعة استثنائية ساهمت منذ مطلع الألفية في تطوير البيئة الثقافية والتنموية لمجتمع فقير, ريفي يعاني ظروفا قاسية تلامس حد الحرمان. إنها قصّة نجاح "جامعة الحسين" التي تكفي للرد على أصوات التشكيك في جدوى إنجاز منطقة اقتصادية خاصة في قلب محافظة ظلّت الأكثر مدعاة للقلق منذ أحداث . 1989
الجامعة التي بدأت نشاطها الفعلي عام 2001 غيّرت في أجواء الشارع المعاني, حين فشلت مشاريع- بعضها وهمي- بعد أن استنزفت ملايين الدنانير. وها هي معان تمر بمرحلة مخاض حقيقي, مع كل ما يحمله ذلك من آمال ومخاوف.
يفترض أن تنشأ المنطقة الاقتصادية, على مراحل, بنية تحتية بتكلفة 200 مليون دولار من خزينة الدولة لتوفير بيئة جاذبة للاستثمار, وبالتالي ستغيّر نظرة الجميع إلى هذه المدينة القابعة وسط الصحراء.
المشروع الجديد يندرج ضمن استراتيجية طويلة الأمد اعتمدها الملك عبدالله الثاني لخلق نماذج وطنية مرتكزة إلى عدالة توزيع فرص التنمية بالتوازي مع تحسين المناخات الاجتماعية والثقافية بما يتلاءم مع طبيعة المجتمعات المحلية في المناطق المهمشة.
هذا ما كان ينقص التجارب التنموية الفاشلة في معان.
فالاصلاحات السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية المستدامة تبدو أنها تجاوزت عقلية التعامل الامني مع مدينة شديدة التديّن قائمة على تجمعات عشائرية, منظومة عادات وتقاليد صارمة وهيبة شبه مفقودة للدولة والأمن.
فضلا عن انتشار الفقر والبطالة, يشتكي معانيون من الشعور بالإهمال والتهميش على نحو لا يليق بمقام مدينة طاردة للسكان أستقبلت قبل تسعين عاما مؤسس الأردن الحديث.
عين الحكومة وحكماء المدينة تتجه صوب تخفيف احتمالات تكرار أحداث شغب تواترت خلال العقدين الماضيين, كان آخرها في تشرين الثاني/نوفمبر ,2003 حين قتل ستة أشخاص من بينهم شرطيان.
يرى السكان هناك إن جامعة الحسين جاءت لبنة أساسية في عملية تحول مجتمعي في مدينة تواجه صراعا بين ثقافة تقدمية معتدلة وأخرى عنوانها الغلو الفكري والتطرف السياسي والتكفير الديني الذي بات يقض مضاجع الدولة والأغلبية الصامتة في معان.
العديد من قادة الرأي والقوى الاجتماعية والشبابية والاقتصادية يقرّون بأن الجامعة حملت تغييرا ايجابيا بما في ذلك حركة عمران لإيواء الطلبة والمدرسين ومحال تجارية وخدمات طلابية مساندة.
هذا الانجاز تحقّق رغم قوى الشد العكسي المتمثلة بمتشددين سعوا على مدى سنوات من أجل إجهاض المشروع عبر محاولات اعتداء لترويع الاساتذة والطلاب. هذه الفئة تعارض الدراسة المختلطة وتشعر بعدم الرضا حيال عدم التزام نسبة قليلة من الفتيات باللباس الشرعي (الجلباب) والخمار.
الأمور اليوم تسير الى الامام. اشتبكت الجامعة مع تفاصيل الحياة المحلية وشجونها العلنية والمخفية. واشتبك الناس معها بالمصالح وبالحوار.
الاسوار التي اقيمت حول الذات وحول الآخرين في زوال, ولو ببطء.
تحتضن الجامعة مجتمعا جديدا قوامه أكثر من 10 آلاف شخص بين اكاديمي وإداري من بينهم 7000 آلاف طالب وطالبة من داخل وخارج المحافظة. في جامعة الحسين 37 تخصصا موزعة على سبع كليات علمية وانسانية.
قبل ثلاثة أشهر انطلقت إذاعة معان المجتمعية تحت شعار "المعرفة قوة". هذه المحطة الفريدة تقدم باقة من 17 برامجا اخباريا وترفيهيا ودردشات تفاعلية على مدار 24 ساعة جلها من انتاج محلي بمشاركة اصوات نسوية على الهواء. هذا الأثير المحلي خلق حراكا وجدالا مجتمعيا. وأثبت المجتمع مقدرة كبيرة على استيعاب التغيير.
لندع الأرقام تتحدث. ارتفعت نسبة الحاصلين على الشهادة الجامعية الأولى في المحافظة من 3.7 في المئة عام 1994 -أدنى النسب بين المحافظات- إلى 10.2 في المئة عام ,2004 وهي مقاربة للنسبة الوطنية.
هناك عشر معيدات وأساتذة من نساء المدينة, بمن فيهن عميدة كلية التربية. أربعون في المئة من إجمالى جسمها الطلابي يمثل كافة عشائر معان. غالبية الدارسين من الفتيات اللواتي لم يتمكن في السابق من اكمال دراستهن الجامعية خارج معان بسبب العادات.
اذا, ساهمت الجامعة في تجسير فجوة العلم والمعرفة لتغيير الواقع في مدينة تعيش في ظلال صورة نمطية وذات تضخم بسبب عوامل تاريخية وتعاطي وسائل الاعلام والخطاب الرسمي. تزامن ذلك مع تساهل الادارات المدنية والامنية المتعاقبة في تطبيق القانون, والتعامل مع معان عبر تحالفات هشة بين السلطة ونخب تقليدية متغيّرة.
للمرة الاولى تجلس ثلاث نساء على مقاعد المجلس البلدي في مدينة كانت الفتاة لا تمشي في الشارع لوحدها. وصلت النسوة إلى هذه المواقع على صهوة نظام الكوتا (التمييز الايجابي).
الجملة المختارة للإبراز)
بعد نجاح جامعة معان صار لزاما على الحكومة ان تعمل وبسرعة لانجاح مشروع المنطقة الخاصة من خلال توفير المال والخطط صوب تنمية مستدامة فضلا عن تبديد بعض مشاعر التشكيك من أن المشروع مجرد جرعة مخدر لشراء الوقت وتهدئة خواطر معان المقلقة. ففي الذاكرة تجارب تنموية فاشلة.
لكن يبدو ان القصر الملكي عازم على الاستمرار في إقامة مناطق اقتصادية تنموية تزاوج بين الحداثة وتقاليد المجتمعات المحلية- بدأت في إربد, العقبة والمفرق ومعان وقريبا في الأزرق.
في ذلك وقف لمسلسل الهجرة الداخلية المستمر من المحافظات الأقل حظا وتحقيق نمو اقتصادي محلي قادر على مكافحة الفقر والبطالة حتى لا ينخران أساسات المجتمع والدولة أو يوفران حاضنة لثقافة التكفير في مملكة معروفة بالوسطية والاعتدال.
لحماية حلم التغيير التنموي وتحقيق العدالة, لا بد من فتح ملف بيع (تطويب) الأراضي الصحراوية الذي تفاقم خلال العامين الماضيين, لصالح نخب سياسية تقيم في عمان لكنها مرتبطة مع معان بالإسم فقط.
هذه النخب التي تتحمل مسؤولية تغذية أجواء التوتر في معان لتكسب مصداقية أمام الإدارة في عمان, رأت في تطويب الاراضي مدخلا للإثراء غير مشروع.
هكذا ممارسات تعمق من مشاعر غياب العدل وتشجع التمرد على القانون والامن والادارة المحلية, وتوفر مادة خصبة لتأجيج الحقد والكراهية.
بالتزامن مع ذلك, لا بد من الاشارة الى ظاهرة أخرى من الفلتان عنوانها "التكفيريين", نجوم المدينة الصاعدة وسط بيئة متأثرة بالسلفية الجهادية والتقليدية وبفكر القاعدة والوهابية والعائدين من "الجهاد" في العراق وافغانستان.
أهل معان يشكون من ممارسات مقلقة يقودها عشرات الاشخاص الذين يسمونهم بـ "التكفيريين" ممن تناسلوا وبسرعة مخيفة خلال السنوات الثلاث الماضية بعد ان تأثروا بفكر أبو سياف.
هذه الكتل البشرية لا تخشى احدا وهي قابلة للتزايد من خلال تطويع الصلات العشائرية وحالة التدين السائدة.
زعماء هذه المجموعات معروفة للجميع وهم يتحركون في العلن تحت أعين المجتمع والادارة المدنية والامنية. بعضهم أصحاب سوابق أو مطلوبون للعدالة. هذه المجموعات باتت تكفر أهل معان المسلمين ممن لا يعتنقون فكرهم. كذلك تكفر كل من يشارك في الانتخابات النيابية ويترشح لها. يقود التكفيريين مسيرات مناهضة, وبعضهم يتشابك مع ائمة المساجد, ويشارك في مسلسل تحطيم الاكشاك الامنية المستمر. عدد منهم يختطف عقول اليافعين من رواد المساجد ويستدرجهم الى بطن الصحراء ليعلمهم كيفية اطلاق الأعيرة النارية.
أهل معان ضاقوا ذرعا من تصرفات هذه المجموعات. وهم يتساءلون عن مصادر تمويلهم وارتباطاتهم التنظيمية والجهات التي تقف وراءهم.
عيون التكفيريين على المدارس لانها اساس عملية التنشئة والتعليم. حاول عددا منهم ترويع وزارة التربية والتعليم والقائمين على 31 مدرسة داخل معان. تم صدهم. غضبوا لأن طلاب المدارس شاركوا في حملة التصويت لاختيار البتراء إحدى عجائب الدنيا السبع. فهي برأيهم عاصمة لدولة كافرة (قبل الإسلام). طالبوا أيضا بمنع زيارة مشرفين تربويين لمدارس الاناث وبمنع الرحلات المدرسية المختلطة. الحكومة تراقب عددا من المدرسيّن- معظمهم يدرسون الفقه والشريعة- بعد ان حاولوا التحكم بطابور إذاعة الصباح في المدارس وفي نوعية الرسائل التوجيهية ومنها الملكية التي تريد وزارة التربية ايصالها لتعميق الانتماء والمعرفة وليس فقط برامج دين. تخطط الحكومة لتحويلهم قريبا الى اداريين لتخفيف خطر تأثيرهم على المدارس وعلى فكر تلاميذ يتخذون من اساتذتهم نماذج لهم.
جامعة الحسين والمنطقة التنموية الخاصة نقطتا ضوء من شأنهما إحداث تغيير إيجابي. لكن لا بد من حراك مجتمعي وفرض هيبة الدولة والقانون, وإلا دخل الجميع في خانة التواطؤ على مستقبل الأردن واستقراره وتسامحه, وغلبت ثقافة التشدد على حساب الحداثة.